اجتماع ناري في البيت الأبيض
مهزلة، فضيحة، صدمة، كارثة دبلوماسية—هذه عينة من الكلمات التي استخدمتها الصحافة العالمية لوصف الاجتماع الناري الذي جرى داخل أروقة البيت الأبيض يوم الجمعة، الموافق 28 فبراير2025، بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقد تحول هذا اللقاء إلى انفجار علني غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة.
وصل زيلينسكي إلى البيت الأبيض في حوالي الساعة 11:03 صباحا لمناقشة وتوقيع إتفاقية المعادن، التي تسعى أمريكا لاستخدامها كوسيلة لمواجهة الأموال التي تزعم أنها دفعتها لأوكرانيا في حربها مع روسيا. في البداية، كانت الأجواء لطيفة إلى حد ما؛ ففي الطابق الأرضي، كان طهاة البيت الأبيض يحضرون قائمة الغداء التي تضمنت الدجاج بإكليل الجبل، والكرنب، وكريم بروليه، والسلطات، استعدادا للوجبة المشتركة بين زيلينسكي وفريقه، وترامب وفريقه. وفي الطابق العلوي، تحديدا في الغرفة الشرقية، كان الأمريكيون قد جهزوا طاولة خشبية وأربعة كراس للأشخاص الذين سيوقعون على الاتفاقية من كلا الجانبين.
خلال الأربعين دقيقة الأولى، تمحورت المحادثات بين ترامب وزيلينسكي حول اتفاقية المعادن، إلى أن تدخل نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس في الحوار، وهاجم زيلينسكي قائلا ضمن حديث طويل:
“ليس من اللائق أن تأتي إلى هنا، إلى المكتب البيضاوي، وتحاول الدفاع عن قضيتك أمام وسائل الإعلام الأمريكية. عليك أن تشكر الرئيس ترامب على محاولته إنهاء هذا الصراع.”
أشعلت كلمات فانس الاجتماع، حيث تدخل ترامب على الفور وهاجم زيلينسكي، مما شكل صدمة للعالم بأسره تقريبا. وما زاد الطين بلة أن زيلينسكي بدا متحديا، ورفض التراجع أو السكوت أمام هجوم ترامب وفانس، وكان مصمما طوال الوقت على الرد عليهما. فجأة، تحول المكتب البيضاوي إلى حلبة صراع، حيث هاجم الرئيس الأمريكي ونائبه ضيفهما الأوكراني، الذي ظل مصرا على الدفاع عن موقفه حتى اللحظة الأخيرة.
قام ترامب بطرد الصحفيين الذين كانوا يتابعون “المهزلة الدبلوماسية” التي جرت في المكتب البيضاوي، وبعد ذلك انتهى الاجتماع، وغادر زيلينسكي وفريقه. وبينما كانوا ينتظرون لاستكمال المحادثات مع الجانب الأمريكي، أبلغهم وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والس بأن المحادثات قد ألغيت، وأن عليهم مغادرة البيت الأبيض فورا، في خطوة أشبه بـ”الطرد” لتكتمل فصول الأزمة.
بعد أقل من ثلاث ساعات من دخوله، غادر موكب زيلينسكي البيت الأبيض في الساعة 1:42 مساء، متجها إلى فندق هيا آدمز حيث كان يقيم. وبعد ذلك مباشرة، ظهر زيلينسكي في مقابلة على فوكس نيوز، حيث رفض الاعتذار لترامب، وأكد أنه مستعد لتوقيع اتفاقية المعادن، لكنه يريد ضمانات كافية من الأمريكيين.
لكن ما الذي يريده زيلينسكي تحديدا من ترامب مقابل هذه الاتفاقية؟ وما الذي يخشاه؟ وكيف أن هذه الاتفاقية، التي يصر عليها ترامب، ربما تعد واحدة من أغبى الاتفاقيات في التاريخ، ولا تكاد تفيد الأمريكيين بشيء؟
هذا ما سنتحدث عنه في هذا المقال.
الورقة النووية الأوكرانية: لماذا تخلت كييف عن ثالث أقوى ترسانة في العالم؟
في 25 ديسمبر 1991، انهار الاتحاد السوفيتي رسميا مع استقالة زعيمه ميخائيل غورباتشوف. وسرعان ما تم إنزال العلم السوفيتي الأحمر من على الكرملين ورفع العلم الروسي ثلاثي الألوان مكانه. في الوقت نفسه، تم سحب الحقيبة النووية التي تحتوي على الزر النووي المسؤول عن إطلاق الأسلحة النووية السوفيتية من غورباتشوف وتسليمها فورا إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن.
خرج يلتسن مباشرة لطمأنة العالم بأسره من خلال لقاء على قناة سي إن إن الأمريكية، حيث قال، باختصار، إن الأسلحة النووية السوفيتية أصبحت تحت سيطرته وحده، ولا يمكن لأحد استخدامها غيره. كان هذا التصريح مهما للغاية في ذلك الوقت، لأن انهيار الاتحاد السوفيتي ترك ترسانته النووية الهائلة، التي بُنيت على مدى عقود، موزعة على أراضي أربع دول مستقلة كانت سابقا جزءا من الاتحاد السوفيتي، وهي أوكرانيا، كازاخستان، بيلاروس، وروسيا.
فورا، برز سؤال معقد: هل روسيا هي الوريثة الوحيدة للترسانة النووية السوفيتية؟ كان هذا السؤال محور جدل كبير بين الجمهوريات السوفيتية السابقة، لكن الخلاف الأهم كان بين روسيا وأوكرانيا. كان الأوكرانيون مصرين على الاحتفاظ بأسلحتهم النووية باعتبارها ملكا لهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ففي نهاية عام 1991، كانت أوكرانيا تمتلك أسلحة نووية أكثر مما تمتلكه كل من فرنسا وبريطانيا والصين مجتمعة.
كانت أوكرانيا تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، تضمنت 176 صاروخا بالستيا عابرا للقارات، من بينها 46 صاروخا من طراز SS-24 Scalpel، وهو صاروخ محمل برؤوس نووية، نشره السوفييت في مستودعات تحت الأرض بالقرب من مدينة بافلوهراد الأوكرانية ليكون جاهزا للإطلاق في أي لحظة. أما الصواريخ المتبقية، وعددها 130، فكانت من طراز SS-19، وهي قادرة على حمل ستة رؤوس نووية لكل صاروخ. كان السوفييت قد وضعوا 40 منها في مستودعات بالقرب من بيرفومايسك، و90 أخرى قرب مدينة خميلنيتسكي في غرب أوكرانيا.
إجمالا، كان لدى الأوكرانيين 1240 رأسا حربيا نوويا. بالإضافة إلى ذلك، ورثت أوكرانيا 44 قاذفة استراتيجية بعيدة المدى متمركزة في قواعد جوية في أوزين وبريلوكي، من بينها 19 قاذفة من طراز Tu-160 Blackjack، وهي أحدث قاذفة استراتيجية سوفيتية في ذلك الوقت، و25 قاذفة من طراز Tu-95MS Bear. كانت هذه القاذفات المسلحة بصواريخ بالستية عابرة للقارات من طراز KH-55، وكل صاروخ منها محمل برأس نووي.
إضافة إلى ذلك، امتلكت أوكرانيا 2883 سلاحا نوويا تكتيكيا، إلى جانب بنية تحتية صناعية وبحثية نووية واسعة النطاق، بما في ذلك خمس محطات نووية تحتوي على 14 مفاعلا نوويا، ومصنع للماء الثقيل، ومصنع يفخرماش للصواريخ البالستية، الذي كان الأكبر من نوعه في العالم آنذاك.
ورغم هذا، لم تكن سيطرة أوكرانيا على هذه الترسانة مكتملة، إذ لم تكن تمتلك أكواد الإطلاق التي تسمح لها باستخدام الأسلحة النووية، والتي كانت بحوزة الروس.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، انشغل المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، بمصير الترسانة النووية السوفيتية، التي أصبحت موزعة بين أربع دول. كانت المفاوضات حول نزع السلاح النووي في بيلاروس وكازاخستان أسهل بكثير من المفاوضات مع أوكرانيا، التي وجدت نفسها في وضع حرج. في أوائل التسعينيات، كانت أوكرانيا تعاني من أزمات اقتصادية، إلى جانب مخاوفها الأمنية بسبب عدم استقرار روسيا، جارتها الكبرى.
في ظل هذه الظروف، رأت أوكرانيا أن الأسلحة النووية التي بحوزتها هي الورقة الوحيدة التي يمكنها استخدامها للفت أنظار العالم إليها وضمان عدم تعرضها لاعتداء روسي مستقبلي. حاول الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش الأب، إقناع الأوكرانيين بالتوقيع على معاهدة ستارت للحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، والتي وقعها مع غورباتشوف في يوليو 1991. كان انضمام أوكرانيا للمعاهدة يعني تخليها عن الصواريخ البالستية العابرة للقارات القادرة على حمل رؤوس نووية، وهو ما رفضه الأوكرانيون في تلك المرحلة، أو بمعنى أدق، لم يكونوا مستعدين للقيام به دون مقابل.
لكن ما الثمن الذي أرادته أوكرانيا؟ كان مطلبها الأساسي يتلخص في شيئين: تعويضات مالية وضمانات أمنية. بدون هذين الأمرين، لم تكن أوكرانيا مستعدة للتخلي عن ترسانتها النووية.
مذكرة بودابست 1994: الوعد الأمريكي-الروسي الذي تحوّل إلى حبر على ورق
في يناير 1993، خرج جورج بوش الأب من البيت الأبيض وحل مكانه بيل كلينتون. خلال عهده، قادت الولايات المتحدة مفاوضات ثلاثية حول السلاح النووي الأوكراني، شملت واشنطن وموسكو وكييف. في النهاية، توجت هذه المفاوضات بتوقيع رؤساء الدول الثلاث على اتفاق تعهدت بموجبه أوكرانيا بنزع سلاحها النووي بالكامل، مقابل ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وروسيا.
تم التوقيع على هذا الاتفاق في يناير 1994 خلال حفل قصير وكئيب في موسكو.
في الفترة ما بين مارس ومايو من عام 1994، تم تعطيل جميع الصواريخ العابرة للقارات من طراز SS-24 التي تمتلكها أوكرانيا، وتم نقل حوالي 180 رأسًا نوويًا إلى روسيا. واستمرت عملية تفكيك ونزع القدرات النووية الأوكرانية على قدم وساق.
أما فيما يتعلق بالتعويضات المالية، فقد زادت المساعدات المقدمة إلى أوكرانيا، كما سُمح لها بالتعامل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومن جهتها، حاولت روسيا تعويض الأوكرانيين عن قيمة الأصول النووية التي تخلوا عنها.
بقيت مسألة الضمانات الأمنية، حيث أصر الأوكرانيون منذ توقيعهم على البيان الثلاثي في موسكو في يناير 1994 على أن يمنحهم الأمريكيون والروس ضمانات أمنية رسمية. ما كانت أوكرانيا تطمح إليه فعليا هو أن تتعهد الولايات المتحدة وغيرها من القوى النووية الكبرى بالدفاع عنها في حال تعرضت لاعتداء من قبل روسيا، وهو التزام كان الأمريكيون حريصين على تجنبه خوفا من التورط في صراع مع روسيا.
لكن رغم ذلك، حاول الأمريكيون طمأنة الأوكرانيين، وفي ديسمبر من العام نفسه، وعلى هامش مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المنعقد في بودابست، اجتمع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، والرئيس الروسي بوريس يلتسن، ورئيس أوكرانيا ليونيد كوتشما، ووقعوا معا على مذكرة الضمانات الأمنية الممنوحة لأوكرانيا مقابل تخليها عن أسلحتها النووية وانضمامها إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.
عرفت هذه الوثيقة لاحقا باسم مذكرة بودابست، وقد نصت على أن الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا تؤكد التزامها باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها وسلامة أراضيها. ولكن، لم تتضمن هذه الضمانات أي التزام عسكري واضح، مما جعلها ضعيفة للغاية مقارنة بتطلعات أوكرانيا.
هذا ما دفع الرئيس الأوكراني السابق ليونيد كرافتشوك إلى التصريح بعد توقيع المذكرة في نهاية عام 1994 قائلا: “إذا دخلت روسيا غدا إلى شبه جزيرة القرم، فلن يفاجأ أحد بذلك”. وقد أثبتت الأيام صحة كلامه، فبعد عشرين عاما، تحديدا في مارس 2014، قامت روسيا بغزو شبه جزيرة القرم.
الغزو والخذلان: كيف تحوّلت الضمانات الأمنية إلى شماعة دبلوماسية؟
في تلك اللحظة، استحضرت أوكرانيا مذكرة الضمانات الأمنية، وكان يفترض بالأمريكيين عدم التخلي عنها، وفقا للاتفاقية. وفي سبتمبر 2014، سافر الرئيس الأوكراني الجديد آنذاك بيترو بوروشينكو إلى واشنطن، حيث ألقى خطابا أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأمريكي، طالب فيه الولايات المتحدة بدعم أوكرانيا عسكريا، مشيرا إلى أن بلاده تخلت عن ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم مقابل ضمانات أمنية، لكنها تعرضت للخيانة من قبل روسيا، إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية.
وأضاف: “لا تتركوا أوكرانيا وحدها، نحن بحاجة إلى معدات عسكرية، سواء كانت فتاكة أو غير فتاكة”.
وفي ديسمبر من العام نفسه، وافق الكونغرس الأمريكي على قانون دعم حرية أوكرانيا، الذي نص على تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، بما في ذلك أسلحة دفاعية فتاكة. لكن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تراجعت عن تقديم الأسلحة لأوكرانيا، خشية التصعيد مع روسيا، واكتفت بفرض عقوبات على موسكو وإدانة تحركات فلاديمير بوتين واعتبارها احتلالا وجريمة، دون أي إجراءات ملموسة تغير الوضع على الأرض.
أما بريطانيا، فقد تجاهلت الأمر تماما، وكأنها لم توقع أبدا على مذكرة بودابست. حتى فرنسا والصين، اللتان وقعتا مذكرات منفصلة تقدم ضمانات أمنية مماثلة لأوكرانيا، لم تحركا ساكنا.
وهكذا، شعرت أوكرانيا بأنها خدعت من جميع الأطراف الموقعة على مذكرة بودابست، الذين طلبوا منها التخلي عن أسلحتها النووية مقابل وعود فضفاضة، وعندما وقع الاعتداء، تخلوا عنها.
بمعنى آخر، أوكرانيا تخلت عن ثالث أكبر قوة نووية في العالم مقابل لا شيء حرفيا، باستثناء بعض الوعود الفارغة. وكانت النتيجة أنها وجدت نفسها مكشوفة عسكريا، ومتورطة في صراع غير متكافئ مع روسيا المسلحة نوويا.
وفي إطار مراجعة الماضي، صرح الرئيس الأوكراني السابق ليونيد كوتشما، الذي وقع مذكرة بودابست نيابة عن أوكرانيا، في مقابلة عام 2018 قائلا: “إحدى أكبر الأخطاء التي ارتكبتها أوكرانيا بعد استقلالها، هي أننا تخلينا عن أسلحتنا النووية ووقعنا على مذكرة بودابست دون ضمانات أمنية حقيقية من القوى العظمى”.
وأضاف: “لم يكن في حسباننا أن وعودا بهذا المستوى ستكون جوفاء تماما”.
ورغم أن الاحتلال الروسي للقرم في 2014 أثبت أن مذكرة بودابست اتفاقية عديمة القيمة، ظلت أوكرانيا متمسكة بها، على أمل أن تفي الولايات المتحدة وبريطانيا، ولو جزئيا، بالتزاماتهما.
في 19 فبراير 2022، وقبل حوالي خمسة أيام من اجتياح روسيا للأراضي الأوكرانية، وقف الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أمام الحضور في مؤتمر ميونخ للأمن ليلقي كلمة في وقت حساس تمر به بلاده، التي كانت القوات الروسية متمركزة على حدودها في انتظار الإشارة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. زيلينسكي، الذي كان مستاء، قال لهم إن أوكرانيا حاولت ثلاث مرات منذ 2014 عقد مشاورات مع الدول الضامنة لمذكرة بودابست، لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل، وأضاف: “أنا هنا أمامكم، وأوكرانيا ستحاول ذلك للمرة الرابعة، وبصفتي رئيسا، سأقوم بهذا للمرة الأولى والأخيرة في إطار مذكرة بودابست. وإذا لم تنجح هذه المحاولة ولم تضمن نتائجها أمن بلادنا، فسيكون لأوكرانيا، على حد تعبيره، الحق في الاعتقاد بأن مذكرة بودابست غير فعالة، وأن جميع القرارات المرتبطة بها موضع شك”.
كان هذا الكلام تعبيرا عن استياء زيلينسكي من تخاذل الأمريكيين والبريطانيين، لكنه في الواقع لم يكن له أي قيمة، لأن الجزء الأهم بالنسبة للأمريكيين والروس من اتفاقات 1994، وهو نزع الإمكانات النووية الأوكرانية عبر تفكيك بعضها ونقل البعض الآخر إلى روسيا، قد تم بالفعل، ولم يعد بإمكان أوكرانيا التراجع عن ذلك.
وفي ديسمبر 2024، وبمناسبة الذكرى الثلاثين لتوقيع مذكرة بودابست، أصدرت وزارة الخارجية الأوكرانية بيانا وصفت فيه المذكرة بأنها مثال على قصر النظر في اتخاذ القرارات الأمنية الاستراتيجية، في ضوء فشلها الصارخ في ضمان أمن أوكرانيا. واليوم، يرفض الأوكرانيون الوقوع في الخطأ نفسه مرة أخرى.
صفقة ترامب وزيلينسكي: المعادن مقابل الأمن… هل التخبط ذاته يتكرر؟
الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، ومنذ دخوله البيت الأبيض، يهاجم أوكرانيا ورئيسها، لدرجة أنه اتهمه بأنه السبب في الحرب التي اندلعت في فبراير 2022 مع غزو روسيا لأوكرانيا. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل طالب ترامب أوكرانيا بإعادة المساعدات التي حصلت عليها من الولايات المتحدة في عهد بايدن، والتي يدعي أنها تبلغ 300 مليار دولار. في المقابل، زيلينسكي ينفي ذلك، ويؤكد أن المبلغ الحقيقي للمساعدات الأمريكية يقترب من 75 مليار دولار. وبغض النظر عن الرقم الحقيقي، لا يعارض زيلينسكي رغبة ترامب في استعادة أموال المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا، رغم أن هذه الأموال كانت منذ البداية مساعدات غير مستردة وليست قروضا.
الحقيقة أنه بالمقابل، تسعى إدارة ترامب إلى استرداد الأموال الأمريكية من أوكرانيا من خلال اتفاقية المعادن، وبموجب مسودة الاتفاقية التي سُرّبت إلى الصحافة، ستقوم الولايات المتحدة وأوكرانيا بإنشاء صندوق استثمار مشترك. ستضع أوكرانيا في هذا الصندوق 50% من جميع الإيرادات التي ستحققها مستقبلاً من الموارد الطبيعية المملوكة للحكومة الأوكرانية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وسيكون الصندوق مملوكاً بشكل مشترك بين الجانبين.
ثروات أوكرانيا الطبيعية: بين وَهْم “التريليونات” وواقع التكاليف المُدمرة
الموارد الطبيعية التي يشملها هذا الاتفاق تتضمن جميع الثروات الطبيعية الأوكرانية، وعلى رأسها المعادن الأساسية، بما في ذلك الليثيوم، والجرافيت، والكوبالت، والتيتانيوم، بالإضافة إلى المعادن النادرة. قد يُنظر إلى هذا الاتفاق على أنه استغلال وطمع من جانب الأمريكيين، ولكن الأوكرانيين وافقوا على توقيعه مقابل الحصول على ضمانات أمنية حقيقية من الولايات المتحدة، وليس ضمانات شكلية مثل مذكرة بودابست سيئة السمعة. الأوكرانيون مصرّون على أن تتضمن اتفاقية المعادن بنوداً واضحة تلزم الولايات المتحدة بحماية أمن أوكرانيا، إلا أن إدارة ترامب حتى الآن تتلكأ وترفض تقديم ضمانات أمنية صريحة.
ما تعرضه الإدارة الأمريكية فعلياً على أوكرانيا هو ضمانات ضمنية وغير مباشرة، والتي يعتبرها الأوكرانيون بلا قيمة. على سبيل المثال، تشير إحدى مسودات الاتفاقية إلى أن الولايات المتحدة ستتخذ “إجراءات” لحماية الاستثمارات المتبادلة بين البلدين، مما يعني التزام أمريكا بحماية المواقع التي تحتوي على الثروات المعدنية الأوكرانية التي ستشارك فيها. لكن كيف سيتم ذلك؟ وهل باقي الأراضي الأوكرانية مشمولة بهذه الضمانات أم لا؟ المسودة لا توضح، والأمريكيون يرون أن هذا الالتزام المبهم كافٍ. من جانبه، صرّح مستشار ترامب للأمن القومي، مايك وولتز، عبر “فوكس نيوز” بأن مشاركة الولايات المتحدة لأوكرانيا في مواردها الطبيعية هي “أفضل ضمانة أمنية” يمكن أن يحصل عليها الأوكرانيون، وأن هذه الضمانة أقوى من الذخيرة.
بالطبع، هذا الكلام لا يحمل أي قيمة فعلية، والأوكرانيون، الذين ما زالوا يعانون من الخداع الذي تعرضوا له في مذكرة بودابست، ليسوا مستعدين للوقوع في الفخ نفسه مرة أخرى. باختصار، هم يريدون ضمانات أمنية حقيقية من الولايات المتحدة، تكون قادرة على ردع روسيا. وكان هذا هو الموضوع الذي كان زيلينسكي يأمل في مناقشته مع ترامب عندما التقاه في البيت الأبيض في 28 فبراير، لكن الاجتماع تحوّل إلى كارثة وفضيحة دبلوماسية عالمية، وانتهى قبل موعده دون التوقيع على اتفاقية المعادة.
ترامب طرد زيلينسكي من البيت الأبيض، ولم يجلس أحد على الطاولة الخشبية وأربعة الكراسي التي كانت معدة لحفل التوقيع في الغرفة الشرقية. مصير اتفاقية المعادن أصبح مجهولاً حالياً، ولا أحد يعرف ما إذا كان سيتم توقيعها أم لا. بعد الاجتماع الكارثي، صرّح زيلينسكي بأنه ما زال يرغب في توقيع الاتفاقية، لكن من غير المعروف ما الذي يفكر فيه ترامب ومستشاروه.
الاتفاقية هذه ذات أهمية سياسية كبيرة لترامب، لأنه يريد من خلالها أن يظهر أمام الشعب الأمريكي بمظهر القائد الحريص على أموالهم، على عكس بايدن، الذي يراه ترامب شخصاً طائشاً أضاع أموال الأمريكيين. لكن هل يمكن أن تحقق هذه الاتفاقية الفائدة المرجوة للولايات المتحدة؟ وهل ترامب ذكي حقاً كما يدّعي عندما يسعى لتوقيعها مع الأوكرانيين؟
في الواقع، قد تكون الولايات المتحدة على وشك الوقوع في واحد من أكبر الأخطاء في تاريخها عبر هذه الاتفاقية. ترامب يريد أن تحقق الولايات المتحدة مكاسب تصل إلى 500 مليار دولار من وراء هذه الصفقة، لكن هذا الرقم مبالغ فيه، وقد لا تحقق أمريكا حتى 1% منه. كيف ذلك؟
وفقاً للتقديرات الأوكرانية، تحتوي أوكرانيا على أكثر من 200,000 موقع للرواسب المعدنية، وهو رقم ضخم يعزز فكرة أن الثروات المعدنية الأوكرانية تساوي تريليونات الدولارات. لكن هناك نقطة مهمة: من بين كل هذه المواقع، هناك فقط حوالي 8,000 موقع يمكن اعتبارها قابلة للتطوير والاستغلال.
كما أن البيانات المتعلقة بحجم الثروات الأوكرانية من المعادن لا يمكن اعتبارها موثوقة بالكامل، لأنها مبنية على مسوحات أجريت بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، خلال الحقبة السوفيتية.
قبل الحرب الروسية الأوكرانية، كانت أوكرانيا تستغل أقل من نصف مواقعها القابلة للتطوير، مما يعني أن باقي المواقع لم يتم تطويرها بعد، وتحتاج إلى استثمارات ضخمة ووقت طويل للبدء في استخراج المعادن منها. وفقاً لتقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأوكرانية، فإن تطوير أكبر 10 مواقع تعدين في أوكرانيا قد يتطلب استثمارات تصل إلى 15 مليار دولار، تشمل بناء المناجم والمحاجر، بالإضافة إلى حوالي 20 منشأة معالجة.
بمعنى آخر، وعلى عكس اعتقاد ترامب، فإن الثروات المعدنية الأوكرانية ليست “آلة صراف آلي” أو “بقرة حلوب”، بل تحتاج إلى استثمارات ضخمة بمليارات الدولارات قبل أن تحقق أي عوائد حقيقية. هذا بالإضافة إلى الاستثمارات المطلوبة لإعادة بناء البنية التحتية في أوكرانيا، التي دمرتها الحرب، والتي ستحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات، فضلاً عن تكاليف تطهير الأراضي الأوكرانية من الألغام التي زرعها الروس.
فهل ترامب أو الأمريكيون مستعدون لإنفاق هذه الأموال على أوكرانيا؟ من الصعب تصديق ذلك.
وبعيداً عن التكاليف، هناك مشكلة أخرى تتعلق بإمكانية تطوير بعض المواقع أصلاً. على سبيل المثال، الرواسب المعدنية في موقع “نوفو بول تسفك”، الذي يُوصف بأنه أحد أكبر مواقع المعادن النادرة في العالم، تحتاج وحدها إلى استثمارات تصل إلى 300 مليون دولار لتطويرها.
ذلك الموقع، وفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، يُوصف بأنه صعب نسبيًا بسبب مخاطر الفيضانات والانهيارات الأرضية. تم اكتشاف موقع نوفو بول تسفك لأول مرة عام 1907 من قبل الجيولوجيين السوفييت، وهو واحد من بين ستة مواقع معروفة في أوكرانيا تحتوي على رواسب المعادن النادرة أو العناصر الأرضية النادرة.
الهيمنة الصينية: لماذا لن تُنهي الاتفاقية إمبراطورية العناصر النادرة؟
ولمن لا يعرف، فإن العناصر الأرضية النادرة هي 17 عنصرًا كيميائيًا مدرجة في الجدول الدوري، وتدخل في معظم الصناعات تقريبًا، مثل الإلكترونيات، الأسلحة، الأجهزة الاستهلاكية، السيارات، الطائرات، توربينات الرياح، البطاريات، الأجهزة الطبية، تكرير البترول، والمفاعلات النووية. تمتلك الصين احتياطيات كبيرة من هذه العناصر في أراضيها، مما كان مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، وخاصة للبنتاغون.
السؤال الآن: هل يمكن لاتفاقية المعادن بين أوكرانيا والولايات المتحدة، التي تتيح للأمريكيين الوصول إلى احتياطيات أوكرانيا من المعادن النادرة، أن تحل هذه المعضلة لأمريكا؟
الإجابة القاطعة: لا.
الهيمنة الصينية على قطاع العناصر الأرضية النادرة لها عدة أسباب، وليس فقط بسبب احتياطياتها الكبيرة.
سلسلة التوريد الخاصة بالعناصر الأرضية النادرة تتكون من ثلاث مراحل رئيسية:
- التعدين والاستخراج: أي استخراج هذه العناصر من القشرة الأرضية.
- الفصل والمعالجة والتكرير: أي تنقيتها ومعالجتها لتصبح جاهزة للاستخدام.
- تصنيع المنتجات النهائية: وأهمها المغناطيسات، التي تدخل في معظم الصناعات المتقدمة.
الصين تهيمن على هذه المراحل الثلاث:
- تسيطر على 63% من عمليات التعدين العالمية للعناصر النادرة.
- تمتلك 85% من القدرة العالمية على معالجتها وتكريرها.
- تنتج 92% من مغناطيسات العناصر النادرة في العالم.
بالتالي، حتى لو حصلت الولايات المتحدة على المعادن النادرة من أوكرانيا، فستضطر لإرسالها إلى الصين لإتمام مراحل المعالجة والتصنيع، مما يعني أن الهيمنة الصينية على هذا القطاع ستظل قائمة.
بعبارة أخرى، لا الولايات المتحدة ولا أي دولة أخرى تمتلك حاليًا التكنولوجيا والمعرفة اللازمة لتكرير ومعالجة هذه المعادن بنفس كفاءة الصين.
وبسبب التكاليف الباهظة والصعوبات التقنية، تقول شركة S&P Global الأمريكية إن استخراج العناصر الأرضية النادرة في أوكرانيا قد لا يكون مجديًا اقتصاديًا للولايات المتحدة.
ما التالي؟ مستقبل العلاقات الأمريكية الأوكرانية بعد الأزمة
لذا، إذا وقع ترامب على هذه الاتفاقية مع الأوكرانيين، فسيقوم بتسويقها للشعب الأمريكي باعتبارها “الصفقة الخارقة” التي ستستعيد لهم الأموال التي أنفقها بايدن على أوكرانيا. لكن في الحقيقة، قد تصبح هذه الصفقة دليلًا على فشل ترامب وتسرّعه عندما يكتشف لاحقًا أن جزءًا كبيرًا من المعادن التي طمع فيها غير جذاب تجاريًا بالنسبة للشركات الأمريكية، التي قد ترفض الاستثمار فيها.
وهذا يقودنا إلى السؤال الأهم :
هل يمكن أن يقدم ترامب ضمانات أمنية حقيقية لأوكرانيا تحميها من بطش وتوغل جارتها القوية، روسيا؟
بعض مصادر المقال:
https://mfa.gov.ua/en/news/zayava-mzs-ukrayini-z-nagodi-30-richchya-z-chasu-pidpisannya-budapeshtskogo-memorandumu
https://nsarchive.gwu.edu/briefing-book/nato-75-russia-programs/2024-12-05/budapest-memorandum-1994-after-30-years-non
https://kyivindependent.com/zelensky-in-munich-demands-security-guarantees-calls-for-preemptive-sanctions-against-russia
https://www.reuters.com/world/key-provisions-us-ukrainian-draft-minerals-deal-2025-02-26
https://www.ft.com/content/51b3dcee-25cb-4c89-88bc-f9f8ac37c6ef
https://www.politico.eu/article/donald-trump-bad-mineral-deal-ukraine-volodymyr-zelenskyy
https://www.spglobal.com/market-intelligence/en/news-insights/articles/2025/2/ukraine-rare-earths-potential-relies-on-soviet-assessments-may-not-be-viable-87318842
https://www.armscontrol.org/act/2014-12/features/looking-back-ukraines-nuclear-predicament-and-nonproliferation-regime#note39
https://kyivindependent.com/zelenskys-full-speech-at-munich-security-conference